غزة والاقليم، آخر المناورات السياسية





في الشهور القليلة المتبقية أمامها في البيت الأبيض، تسعى الإدارة الأمريكية الحالية إلى تهيئة مناخ التسويات بأي شكل من الأشكال. غزة، التي أصبحت المحطة الرئيسية التي لا يمكن تجاوزها في أي مشروع للتسوية، تشهد حالياً جهوداً كبيرة لصياغة اتفاق مرحلي قد يفضي إلى حلول طويلة الأمد. ولكن في الوقت الذي تظهر فيه إشارات إيجابية متعددة على مختلف الجبهات في المنطقة، يبقى الواقع على الأرض هشاً وقابلاً لفتح جبهات جديدة بدلاً من إغلاقها.

الإشارات المتناغمة مع عملية تعبيد طريق التسويات بدأت تظهر بوضوح، وقد يكون أبرزها على جبهة إيران. التغير السريع والمفاجئ في شكل المنظومة الرئاسية في إيران لا يمكن فصله عن رغبة التكيف الإيراني مع المرحلة الحالية، في محاولة لتبديد مسوغات حرب المواجهة المباشرة مع إيران عبر مناورة التفاهمات السياسية التي عبرت عنها نتائج الانتخابات الرئاسية بوصول الرئيس "الإصلاحي" الجديد ذو الأصول الأذرية مسعود بزشكيان. التغير السريع في شكل المشهد السياسي في إيران بخروج المتشددين مثل الرئيس السابق إبراهيم رئيسي، الذي لم يكن فقط رئيساً بل كان المرشح الأقوى لخلافة المرشد، ووزير خارجيته الذي كان يهيئ أيضاً للعب أدوار سياسية كبرى، يعطي الانطباع بمحاولة إيران للتكيف السياسي مع التحولات الإقليمية والدولية. فرسالة بزشكيان الأولى كرئيس ركزت على مد اليد إلى الجميع "دون استثناء"، والرغبة في استئناف مفاوضات الاتفاق النووي، بمعنى آخر، العودة إلى صورة إيران المقبولة من الغرب على حساب إيران المنبوذة، في قراءة قد تتفق مع المخاوف الحقيقية من عودة الرئيس ترامب وإدارته الجمهورية في ظل مواجهة إقليمية مفتوحة وجبهات متعددة مشتعلة، مما يعني أن الإدارة القادمة لن تضيع أي فرصة لاستهداف إيران، الأمر الذي يجعل الإيرانيين مضطرين لتبديد خطر فتح حرب شاملة وإغلاق مسوغات الاستهداف المباشر.

على الصعيد اللبناني، مازالت الجهود الدبلوماسية مستمرة لمنع سيناريو وقوع الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله. في إطار هذا التكيف، كان لافتاً أن رسائل حزب الله الأخيرة تنوعت من محاولة رفع مستوى التهديد بالخطر الذي ينتظر الإسرائيلي، إلى ربط كل ما يقوم به حالياً بما يحدث في غزة، لا بل بتفويض حماس باختيار الصيغ المناسبة لإيقاف هذه الحرب وبالتالي قبول حزب الله بما تقبل به حماس، وهي إشارة صريحة برغبة الحزب أيضاً في إغلاق جبهة لبنان. لكن بلا شك، هذا لا يعني أن خيار إيقاف هذه الحرب هو خيار حزب الله. على العكس تماماً، بالنسبة للإسرائيلي فإن جبهة لبنان في هذه المرحلة هي جبهة الأولوية، وإغلاقها لا يمكن أن يتم فقط بإغلاق جبهة غزة. عملية إنهاء الخطر القادم من جبهة لبنان ،وفقاً للرؤية الأمنية الإسرائيلية، تحتاج إلى تدخل عسكري إسرائيلي، يؤسس لواقع جديد، أهمه ضرب قدرات حزب الله وبنيته التحتية، والتأسيس لمنطقة عازلة تتولى قوات دولية حمايتها، والأهم أيضاً تعميق أزمة حزب الله الداخلية في إطار علاقته مع المكونات المجتمعية والسياسية الأخرى، وهذا يعني أن الحل الذي قد ينتج في غزة لا يعني أنه قد ساهم في إيجاد حل حقيقي في لبنان.

على جبهة غزة، المناورة السياسية التي تقوم بها حماس بالحديث عن وقف القتال وإدارة غزة ما بعد الحرب تهدف إلى تعظيم فرص إنجاز تسوية سياسية والحفاظ على بعض المكتسبات، لكن بلا شك هي مناورة ذات طابع إقليمي. فقبول هذه الشروط في مرحلة سابقة كان يمكن أن يعظم أزمة نتنياهو مع الإدارة الأمريكية ويبقى على مكاسب أكبر للطرف الفلسطيني. مع ذلك، فإن المعطيات الحالية بمحاولة منع إسرائيل من التفرد في صياغة استراتيجية المواجهة في المنطقة، عبر تعظيم فرص إنجاز اتفاق سياسي برعاية أمريكية، واستغلال عامل الوقت وحاجة هذه الإدارة لإنجاز أي اتفاق يمكن أن يُبنى عليه لاحقاً، يشكل نقطة قوية يجدُر الاستثمار بها سياساً. لكن قد لا يكون عامل الوقت بالنسبة للإسرائيلي عاملاً ضاغطاً، خصوصاً أن مناخ التسويات لم ينضج في ظل الجبهات المفتوحة والعمليات المستمرة، من سوريا إلى لبنان، اليمن والعراق، غزة والضفة الغربية، مما يعني أن محاولة تفكيك مشهد الصراع الإقليمي عبر صفقة في غزة -بالرغم من أهميته- تبقى احتمالية نجاحه مهددة بشكل كبير من أطراف الصراع أنفسهم. حيث أن معادلة "خاسر-خاسر" قد لا تُثير شهية أحد اليوم لإغلاق المشهد بصورته الحالية. اختلاف الرؤى كبير وواقع الحلول العملية الذي يفرض نفسه قد لا يجعل إنهاء الجبهات دون فرض حلول حاسمة قابلاً للتطبيق.
د.عامر السبايلة