شهد ملف التسوية الفلسطينية محاولات متعددة حاولت الادارات الامريكية من خلالها فرض رؤيتها لتسوية وترجمتها على الارض. تتشابه المناخات المتشكلة في هذه المرحلة بمناخات مابعد حرب الخليج في العام ١٩٩١ حين تفردت الولايات المتحدة في صياغة شكل القرار الدولي وأدخلت المنطقة في نفق التسوية الاكبر. ساهم التحول في الموقف السوري في تعزيز قناعة الادارة الامريكية بحتمية انجاز التسوية خصوصاً مع ظهور بوادر واستعداد الجميع للجلوس على طاولة المفاوضات في مؤتمر مدريد. زادت التعهدات التي قدمها اسحق رابين للرئيس كلينتون “وديعة رابين” من قناعة واشنطن بقدرتها على الانجاز وعزز ذلك ظهور محاولات الهروب الفردي في انجاز تسويات فردية خاصة من طراز أوسلو ١٩٩٣ ووادي عربة ١٩٩٤، الا ان تعطلت عجلة التسوية على ابواب دمشق ووصول مساعي كلينتون لانجاز السلام بين سوريا واسرائيل (باراك الاسد) ١٩٩٩ الى طريق مسدود.
مع عودة جورج بوش الابن، قادت ايديولجية مكافحة الارهاب بوصلة التغيير في السياسة العالمية وظهرت النوايا الامريكية في استكمال مشروع السلام المعلق لكن في هذه المرة عبر بوابة مشروع “حل الدولتين”، خصوصاً مع تغيير شخوص المشهد السياسي الاقليمي (حافظ الاسد، الملك حسين، ياسر عرفات، رابين) وقيادة عبد الله بن عبد العزيز السعودية لانجاز ملف مبادرة السلام العربية.
لم يساعد مسار الاحداث الاقليمية على خلق اجواء قادرة على دفع عملية السلام، فمرحلة ما بعد سقوط العراق عرفت بأكثر المراحل دموية، ولم تنجح محاولات الضغط على سوريا في دفعها للانخراط بملف التسوية، اي بالمعنى السياسي تعطل مشروع التسوية بعد مباحثات ” أنابوليس ٢٠٠٧” وباءت بالفشل آخر محاولات التحايل على التسوية “الاتحاد من اجل المتوسط ٢٠٠٨ “.
دشن خطاب القاهرة الذي القاه الرئيس الامريكي أوباما في الجامعة الامريكية في القاهرة ٢٠٠٩ موجة التغيير الاول في المنطقة. اندلعت ثورات ما يسمى الربيع العربي، ودون الخوض في كثير من التفاصيل، تراجع حضور القضية الفلسطينيةعلى الاجندة السياسية مع تغير الاولويات وانحسار الرؤى في الاوضاع الداخلية على كافة الصعد الامنية والسياسية والاقتصادية. ومع استمرار حالة الانكشاف الداخلي والدولي في الدول قد تكون المنطقة مع موعد الجولة الثانية من التغيير.
مع وصول ادارة ترامب الى البيت الابيض، ظهر العنوان الابرز للعودة الى المنطقة عبر فكرة “احداث الفوضى”، لهذا لم يكن عبثاً ان يكون خيار الاعلان عن القدس عاصمة لاسرائيل ونقل السفارة الامريكية اول خيار تتخذه هذه الادارة كعنوان العودة الاوضح.
يحتاج التعاطي مع التحول اللافت في المنطقة الى قراءة أكثر شمولاً لحجم التغيير في السياسة الدولية وانعكاسها على السياسة الاقليمية وأنظمتها. فبنيما كان أوسلو ١٩٩٣ العنوان الاهم لمرحلة مابعد حرب الخليج الاولى وسقوط جدار برلين، يمثل حل الدولتين عنوان مرحلة التفرد الامريكي في ادارة المنطقة. أما اليوم فالمرحلة الجديدة تتجاوز مسألة حل الدولتين وبالتالي بات عنوانها اقرب الى فكرة الحلول العملية الامر الذي قد يستدعي ايضاً تغييراً في شكل المشروع وشركاءه وشخوصه.
يمكن تصنيف المرحلة الحالية على انها مرحلة ما بعد الايديولجيا، اي انتهاء الحرب الايدولوجية وتبني ايديولوجية واحدة فقط، “البراغماتية الاقتصادية”، اي ان المكاسب الاقتصادية هي المحرك الاساس للعقل السياسي. لهذا من الطبيعي ان تفقد كثير من الدول أهميتها ومكانتها، خصوصاً دول المحور الامريكي التي انخدعت بأهمية دورها في خدمة القوى الدولية في اطار الحرب الباردة او الحروب الايدولوجية التي كان اخرها “الحرب على الارهاب”. وقد لا نبالغ عن القول ان بعض هذه الدول قد دخل في حالة الخطر الوجودي بعد تحوله لعبء على حلفائه وداعمية، وتشبثه بسياسات عقيمة منتهية الصلاحية في عالم اليوم الذي نعيش.
ان هذا التحول في الإطار الايدولوجي لصالح الواقع الاقتصادي يتوافق بشكل كبير مع انحسار المطالب السياسية لصالح المطالب الاقتصادية الامر الذي يظهر بوضوح في طبيعة التعاطي مع القضية الفلسطينية وتسويق مبدأ “السلام الاقتصادي” دون الدخول في تابوهات الحلول السياسية.
ان تطويع أبناء المنطقة اقتصادياً لم يكن وليد اللحظة بل على العكس ساهمت السياسات الحكومية لكثير من الدول في انتاج هذا الواقع الصعب الذي تعاني منه الدول المرتبطة عضوياً وجغرافياً بمسألة الحل الفلسطيني.
قد لا يفضي مشروع التسوية الحالي الى اي حلول حقيقة لكنه بلا شك يساهم في تعزيز الانتقال الى مراحل متقدمة في عملية فرض الحلول والتعاطي معها ضمن الواقع العملي الحياتي الذي يعيشه ابناء المنطقة بشكل يومي، الامر الذي يضيف فصلاً جديداً لفصول التسوية التي يتم التعاطي معها منذ سنوات طويلة وفقاً لنظام التقادم، اي ان مررو الوقت يفرض واقع الحل.
د،عامر السبايلة