رسمت الادارة الامريكية العنوان الابرز لرؤيتها المفترضة للتسوية عبر خطوتين اساسيتين: الاعتراف بالسيادة الاسرائيلية على الجولان والاعلان عن القدس عاصمة لاسرائيل. الفلسفة الامريكية في التحرك تعتمد على مبدأ فرض سياسة الامر الواقع، خصوصاً أن تقديرات واشنطن تشير الى غياب أي قدرة للدول على مواجهة أو رفض هذه السياسات. في الوقت نفسه، هناك قناعة امريكية بأن تحريك المياه الراكدة عبر احداث الصدمة سيعمل على جلب الجميع الى طاولة التسويات مع تحديد مسبق لسقف التوقعات.
نهج الادارة الامريكية الحالية وقدرتها على التعاطي الصلف مع ملفات المنطقة بات السؤال الابرز للكثيرين. للاجابة على بعض تعقيدات هذا السؤال لابد من استيعاب القناعات التي باتت تسكن العقل الامريكي والمدرك لحجم الانهيارات والتفسخات التي تعيشها المنطقة. انهيار مفاهيم العمل النضالي والترويض الاقتصادي وحقيقة العلاقة بين الشعوب وقادتها خصوصاً اولئك الذين باتوا يفتقرون الى شرعية وجود حقيقية تُستمد من شعوبهم.
ان اخضاع السياسة الامريكية وردود الفعل عليها لمنطق المقارنات يثبت بلاشك ان اي خطوة مشابهة لما نعيشه اليوم كانت كافية لاندلاع حرائق سياسية في كافة البلدان العربية وان يجتاح الطوفان البشري وعمليات المقاومة كافة شوارع المدن العربية رفضاً واحتجاجاً. لكن كيف أُنجزت هذه التحولات على ارض الواقع وكيف امتلكت الادارة الامريكية الجرأة لاتخاذ هذه الخطوات دون الالتفات لمسألة التداعيات الامنية، وكيف تم تبني سياسات لا تخضع حتى لمنطق الدبلوماسية الكاذبة او مجاملات رفع العتب. التحولات التي طرأت على المجتمعات والتي ساهمت فيها السياسات الحكومية لدول المنطقة عملت على تهشيم الفكر النضالي وتفكيك حالات الوعي السياسي وضرب العمق الثقافي. أما التأسيس لتغير الاولويات وحسر تفكير وطموح الكثيرين في تحسين الواقع الاقتصادي السيء، والتأسيس لجعل العامل المادي الاكثر تأثيراً في بوصلة وخيارات الشعوب، فهو نتاج لعملية تخلي الدولة عن واجباتها الأساسية تجاه مواطنيها وسيادة الحالة الاوليغاركية في ادارة الواقع الاقتصادي مع اندماج مفهومي التجارة والامارة.
ان فتح باب المقارنات قد يعيدنا الى حقبة ليست بعيدة بلغة الارقام لكنها لافتة جداً في شكل وحجم التحولات. فعلى سبيل المثال، في العام ١٩٩٠، مع اجتياح القوات العراقية للكويت، واجه الملك الاردني الراحل “حسين بن طلال” خيارات صعبة وضعت الاردن في زاوية التهديد الوجودي، خصوصاً ان الملك الخارج لتوه من أزمة ١٩٨٩ وثورة نيسان كان لايزال يواجه تحديات الانهيارالاقتصادي المتسارع والغضب الشعبي من السياسات الحكومية وطريقة ادارة الدولة. في البعد السياسي اليوم، يمكن النظر الى تلك الخيارات اليوم على انها حالة من حالات الانتحار السياسي (مواجهة التحالف الدولي في نفس الخندق العراقي)، لكن في البعد الواقعي، القى الملك حسين الكرة في ملعب الشعب الاردني وطرح خيارات المواجهة عبر شراكة مباشرة أشعرت كل أردني بأنه يخوض معركته الشخصية بمسوؤلية عالية وحس وطني غير مسبوق. هذه المعادلة جعلت مفهوم التحدي ومواجهة الصعوبات أمراً مقبولاً على المستوى الشعبي وتعاطى الاردنيون مع كافة الاجراءات الاقتصادية الصعبة برحابة صدر وتشكلت حالة واضحة من الصلابة والُلحمة الوطنية أدت الى خلق واقع صلب في تركيبة الداخل الاردني.
مع مرور ما يقارب الثلاثة عقود على هذه الحالة، تظهر كثير من التحولات والتغييرات التي صاغت الواقع السياسي الحالي والسيكولوجيا المجتمعية. تآكل مفهوم الدولة في العقل الجمعي للمواطنين والشعور بالاستعداء والتغول الحكومي ادى الى تجذير التحول في صورة المنظومة الحاكمة لتصبح أقرب الى الخصم المباشر للناس، جامع الضرائب غير المستحقة، وحامي لطبقة فاسدة ومستغل لحقوق الناس لصالح منظومة متهاوية من الفئات المتغولة، اي باختصار، تم احداث تحول من صورة الدولة الى صورة الاقطاعيات القروسطية. هذا الانهيار الطاغي شمل ايضاً صورة رجال الدولة والدور الحقيقي للحكومات وصولاً الى الهجوم على شخص الحاكم والتشكيك الفعلي بقدراته.
في ظل هذه التحولات وتعظيم الحاجة لتحسين الواقع الاقتصادي يتم الحديث مباشرة عن حالة اختزال الحلول السياسية بطروحات التحسن الاقتصادي، وهو امر ينطبق على السياسة الداخلية في الدول المرتبطة بالحل الفلسطيني ويتوافق ايضاً مع منطق التسوية القادمة من واشنطن والتي تعتبر ان السلام الاقتصادي هو المحرك الرئيسي لاي تسوية قادمة.
الانهيارات في العلاقة بين المواطن ومنظومة الحكم وتدهور الاحوال الاقتصادية بالاضافة الى تبدد الحالات النضالية تدفع اليوم بالولايات المتحدة لاتخاذ قرارات سياسية جريئة غير آبهة بأي ردود فعل مفترضة.
ان اعادة تقييم السياسات الداخلية والنظرة الواقعية للامور تشير بوضوح ان اي معركة تسعى لخلق حالة وطنية لا يمكن ان تُعزل عن الحاجة لاعادة النظر في اخطاء السياسات وسقطات الحكم. هنا لابد من التذكير أن الشرعيات الوطنية هي التي تمنح الحاكم شرعية وجوده اما الاعتقاد بأن المعارك يمكن أن تُخاض عبر الشعارات والشعوبيات فهو اعتقاد خاطئ والمعايير المتناقضة بين الشعارات المعلنة والسياسات المطبقة يشي بحتمية خسارة اي معركة.
الشرعية الوطنية هي المعيار والاساس وخلق الُلحمة الوطنية يحتاج الى حالة تصالح داخلي مع الشعب، واستعادة الثقة بين الحاكم والمواطن عبر اجراءات تغييرات حقيقية تبدأ عبر تطبيق خطوات تُظهر قناعة الطبقة الحاكمة بأن هذه الشعوب تستحق التقدير والاحترام وتستحق ان تُكاشف وتُصارح ولابد ان تسترد حقوقها في بلدانها، عندها يمكن التعويل على الحالات الشعبية في مواجهة مشاريع التصفية والتسوية.
د.عامر السبايلة