مع انحسار فكرة المواجهة الإقليمية بين إيران وإسرائيل والاكتفاء بالرد المتبادل على الأقل مرحلياً، تعود إسرائيل لتطبيق استراتيجية أمنية شاملة تهدف في جوهرها إلى تأمين المناطق الحدودية والتي تبدأ وفقاً للرؤية الأمنية الإسرائيلية من السيطرة على رفح. وهو ما يُفسر تقديم الاسرائيليين لضمانات متعددة للحلفاء الدوليين حول قدرتهم على ضمان عدم سقوط ضحايا من المدنيين المتركزين في جنوب غزة.
في الوقت نفسه، قد تشي الإجراءات الأمنية المشددة التي تتخذها إسرائيل علي المستوى الإقليمي أن المواجهة على جبهتي سوريا ولبنانباتتو جزء أساسي من استراتيجية تأمين إسرائيل والتي لن تغلق قبيل ضمان عدم تشكيل هاتين الجبهتين لأي خطورة مستقبلية على الداخل الإسرائيلي. ومن هنا، فان هذه الرؤية الإسرائيلية، قد تُرشح جبهة لبنان أن تكون على موعد مع تصعيد نوعي يهدف الى إعادة رسم المشهد الأمني الذي تسعى إسرائيل من خلاله أيضاً الى خلق واقع اقرب في شكله الى منطقة أمنية عازلة يتم من خلالها ضمان عدم وجود أي تهديدات مستقبلية. لكن في الوقت نفسه تضع هذه الاستراتيجية ضغوط متزايدة على لبنان وحزب الله، قد تجبر الحزب على الدخول في مواجهة أكثر عنفاً ومباشرة، خصوصاً مع استمرار استهداف الضربات الاستخبارية الإسرائيلية لعناصر محددة في حزب الله وتوجيه ضربات الى أهداف استراتيجية متنوعة بما فيها مستودعات السلاح.
عملية الاستهداف الإسرائيلي هذه جعلت حزب الله في حالة اشغال مستمر على مدار الشهور الماضية، ومع استمرار هذه المواجهة وارتفاع احتمالية توسعها يقد يجد حزب الله نفسه مضطراً الى التعامل مع هذا الواقع الجديد والتركيز على جبهة الجنوب مما يعني نقل قدراته بشكل كامل واستدعاء مقاتليه من سوريا الى الأراضي اللبنانية.
هذا التحول في الديناميكيات قد يكون له آثار مباشرة على المسرح السوري أيضاً ، لا سيما وأن الجماعات الإرهابية المختلفة، بما في ذلك تنظيم داعش، قد تسعى إلى استغلال الوضع لتصعيد أعمالها وتوسيع دائرة نفوذها. فعلى سبيل المثال، أدت عملية قام بها تنظيم داعش مؤخراً في سوريا بالقرب من مدينة حمص إلى مقتل ما لا يقل عن 21 من الميليشيات الموالية لسوريا. في الوقت نفسه، وقع سيناريو مماثل قامت به هيئة تحرير الشام، التي بدأت بتكثيف عملياتها بشكل واضح في جنوب إدلب.
مشهد عودة التنظيمات الإرهابية الى العمل بشكل أكبر على الساحة السورية، يتزامن أيضاً مع مشهد لا يقل خطورة على الساحة العراقية، حيث شنت الجماعات شبه العسكرية المدعومة من إيران هجمات استهدفت القوات الأمريكية في قاعدة عين الأسد وقاعدة "خراب الجير". هذا التطور بالعودة الى استهداف القوات الامريكية، يلقي الضوء بشكل واضح على الانقسامات الداخلية العميقة أيضاً داخل المحور الشيعي العراقي، الذي أصبح ينقسم بشكل واضح الى فصائل متشددة تدعو لمواصلة الهجمات على الأهداف الأمريكية وفصائل أخرى تسعى جاهدة إلى الحفاظ على حالة الهدنة لتجنب المزيد من التصعيد.
هذا الانقسام والتفاوت في الرؤى بدأ يعبر عن نفسه بعمليات مباشرة، يُرجح أن تؤدي هذه الى تعميق الانقسامات داخل الجبهة الشيعية من جهة، ومن جهة أخرى، إلى التصعيد في عمليات ضرب الأهداف الأمريكية ولكنها وبلا أدنى شك تُنذر بارتفاع خطر وقوع مواجهات مباشرة بين التنظيمات الشيعية المسلحة داخل مناطق نفوذها.
اذاً، مع تصاعد التوترات وتطور الديناميكيات الإقليمية، يبرز لبنان باعتباره النقطة المحورية التالية على سلم أولويات الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، حيث سيتحول التركيز الاستراتيجي لإسرائيل بشكل مطرد نحو المشهد اللبناني الأمر الذي قد يحدده سرعة إسرائيل في انجاز معضلة السيطرة على الحدود الجغرافية لرفح.
في خضم هذا الوضع الإقليمي المعقد، الذي مازال يعاني من خطر الجبهات المفتوحة والمتعددة ، وازدياد احتمالية عودة التنظيمات الإرهابية للعمل في مناطق مختلفة من سوريا والعراق، كل هذا يجعل من الوضع الإقليمي وضعاً قابلاً للانفجار والتوسع بشكل كبير وقد تكوت أبرز التحديات اليوم على الجبهة الأردنية التي تجد نفسها في مواجهة خطر تفاقم الصراع من جهة وخطر التعامل مع تداعياته، خصوصاً أن معظم الإشارات من محاولات الاختراق للحدود الأردنية على مدار الشهور الماضية، والمجال الجوي عبر المسيرات والصواريخ الإيرانية، الى التصعيد اللفظي والتركيز المباشر على الساحة الأردنية، كلها تُشير بوضوح الى رغبة بعض الأطراف وضع الأردن في خانه الاستهداف المباشر وتوسيع جغرافية الصراع.
د.عامر السبايلة